الرغبة في حياة “فردوسية” لم تكن حلمًا بقدر ما كانت حاجة فطرية للأمن والاستقرار
مصر الخيار الأقرب والأكثر ألفة للروح اليمنية بشكل خاص
أربع سنوات من عمري كأنها العمر جلّه بين الانتظار والأمل لهب اليأس بي لعبته
اليمن وشمت في روحي قوة الصبر والتحمل ومصر تركت بصمة الدفء الإنساني وكندا تنقش في روحي معنى البداية الجديدة
من بين أتون حرب مزقت أوصال الوطن، وتحديات مجتمعية كبلت طموحاتهن، تنطلق فتيات يمنيات في رحلة محفوفة بالمخاطر، يكسرن قيود الماضي ويهاجرن بحثًا عن حياة كريمة وآمنة. قصصٌ تحمل في طياتها وجع الفقد، وشجاعة التغيير، وأملًا يلوح في الأفق البعيد.
في هذا الحوار، نستضيف وئام منصور -مهندسة متخصصة في الشبكات والاتصالات، ومعلمة للغة الإنجليزية، وصانعة محتوى عبر منصات التواصل الاجتماعي. وئام، نموذج لفتاة يمنية آثرت المغادرة على الاستسلام لواقع فُرض عليها فرضًا وإجبارًا. من رماد اليمن إلى فردوس كندا، نسجت وئام خيوطًا من الأمل والإرادة، مؤكدة أن جذور الانتماء تبقى عميقة، وأن شعلة الحلم تضيء الطريق نحو مستقبل أفضل.
تروي وئام بتعبيرها الصادق تفاصيل رحلتها، والتحديات التي واجهتها كامرأة ومهنية، والأحلام التي مازالت تراودها في أرض المهجر. حكاية وئام هي صرخة أمل وقوة، وشهادة حية على قوة الروح الإنسانية وقدرتها على التكيف والصمود، وشهادة على إصرار المرأة اليمنية على انتزاع حقها في الحياة والكرامة، حتى وإن كان ذلك بعيدًا عن تراب الوطن.
حاورها: محمد مصلح
- وئام، يا من جمعتِ بين دقةِ الأرقام وجماليةِ الحروف، وبين مرارةِ الواقع وحلاوةِ الحلم، اسمحي لي أن أبدأ معكِ من هذه النقطة: كيف تصفين لنا تلك اللحظات الأولى التي قررتِ فيها أن وضع الوطن المزري لم يعد يحتمل، وأن الرحيل بات قدرًا لا مفر منه؟ وكيف تجسدت في داخلكِ الرغبة في البحث عن وطن بديل، يحمل في طياته استقرارًا للروح وتقديرًا للطموح؟
بداية: شكرًا لك على هذا السؤال الأدبي العميق. بالفعل، كان قرار الهجرة مزيجًا من دوافع شخصية ووطنية؛ إن تلك الشرارة التي تولدت في فكري عن الهجرة لم تكن وميضًا واحدًا، بل كانت لهيبًا متصاعدًا من الألم والإحباط، أن ترى وطنك يتهاوى، وتشعر بأن مستقبلك يذبل قبل أن يزهر، هو شعور لا يوصف. لم يكن قرارًا سهلًا، بل هو اقتلاع لجزء من الروح، لكنه كان ضروريًا للبقاء والأمل في غد أفضل. الرغبة في “حياة فردوسية” لم تكن حلمًا خرافيًا بقدر ما كانت حاجة فطرية للأمن والاستقرار في مكان أستطيع فيه أن أتنفس بحرية، وأحقق ذاتي دون خوف.
- تلك الأيام الحالكة في اليمن لاتزال حاضرة في نبرة صوتك، وتفاصيل وطن مزقته الصراعات أظنها حفرت عميقًا في ذاكرتك. ما هي أبرز تلك الظروف القاسية التي أيقظت في داخلكِ يقينًا بأن المغادرة هي الخيار الوحيد؟ وما هو الدافع الأقوى الذي أشعل فتيل هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر..؟
نعم. إني أتذكر جيدًا إغلاق المؤسسات تباعًا، وفقدان الكثيرين وظائفهم، والشعور بأن لا مستقبل ينتظرنا. لكن الدافع الأقوى كان ربما فقدان الأمل في أي تغيير قريب، أن تعيش في بيئة لا ترى فيها أية بارقة أمل، وأن تشعر بأن كل يوم يمر هو تدهور إضافي وفقدان للشغف بشكل مستديم، ثم إني من حقي أن أعيش حيثما وجدت أمني وأماني، لا سيما أن الوضع الذي قاسيته قد يدفعك دفعًا نحو البحث عن مكان آخر يمكنك فيه أن تحلم من جديد، فقررت السفر إلى مصر، وبعدها قدمت طلبًا للجوء.
- أرض الكنانة: مصر، كانت محطتكِ الأولى في البحث عن الأمان النسبي. لماذا وقع اختياركِ تحديدًا على مصر لتكون أولى خطواتكِ نحو هذا المجهول؟ وما هي أبرز الصور والذكريات التي تحتفظين بها من تلك الفترة التي احتضنت غربتكِ مؤقتًا؟
مصر كانت الخيار الأقرب والأكثر ألفة للروح اليمنية بصورة خاصة. ثقافتها العربية ودفء شعبها كان بمثابة بلسم لجرح الغربة الأول. أحتفظ بذكريات طيبة عن طيبة الناس وكرمهم، لكنني أدركت سريعًا أن الاستقرار الدائم كان صعبًا في ظل التحديات الاقتصادية، وكونك قدِمت إليها كسائح فلا يحق لك العمل مطلقًا، وهذه إحدى المصاعب التي واجهتني في فترة مكوثي فيها لأربع سنوات قبل أن أغادر، لكن في المجمل فقد كانت محطة مهمة تعلمت فيها الكثير عن الصبر والتكيف مع بيئة جديدة. ثم إن مصر تستضيف أعدادًا كبيرة من اللاجئين والنازحين، وتوفر لهم بعض الخدمات الأساسية، إلا أن الحصول على فرص عمل مستدامة يظل تحديًا كبيرًا يواجههم.
- في حديثكِ، لم تخفي الصعوبات التي واجهتكِ في كل من اليمن ومصر. هل لمستِ تشابهًا في طبيعة التحديات التي تعترض طريق الشباب اليمني الطموح في هاتين البيئتين المختلفتين؟ وهل هناك قواسم مشتركة في الشعور بالإحباط أو ضياع الفرص؟
هناك بالتأكيد قواسم مشتركة في كلتا البيئتين، يواجه الشباب اليمني صعوبات في تحقيق طموحاتهم وإيجاد فرص حقيقية للنمو والازدهار. في اليمن، كانت الحرب هي العائق الأكبر، وفي مصر كانت التحديات الاقتصادية والمنافسة الشديدة، وأضيف على ذلك أن الشعور بالإحباط وتضاؤل الآمال كان حاضرًا في كلتا المحطتين، وللعلم فإن هناك إحصائيات تشير إلى أن نسبة البطالة بين الشباب في اليمن ومصر مرتفعة، مما يعوق تقدمهم، ويؤثر سلبًا على آمالهم في بناء مستقبل أفضل.
- إعادة التوطين، وتقديمك لطلب اللجوء، كم استغرقت معاملتك حتى حصلت على الموافقة بقبول الطلب؟ وما هي الإشكاليات التي واجهتك حينها؟
آه (تنهدت وهي تجيب) أربع سنوات من عمري كأنها العمر جلّه، فما بين الانتظار والتأمل لعب اليأس بي لعبته، وكدت أن أفقد الأمل، لولا أن قدرة الله كانت فوق كل شيء، اتصلوا بي حينها من السفارة الكندية، وأجريت مقابلتي، وتم قبولي، فلم تسعني ذلك الوقت الأرض ولا السماء، استلمت تأشيرتي، ولم تكن مجرد تأشيرة، بل كانت صك حرية لإنسانة رأت من الأوجاع والخذلان ما يشيب له الرأس. عادةً ما تستغرق إجراءات إعادة التوطين للاجئين عدة سنوات، وتعتمد المدة على عدة عوامل، منها الدولة المستقبِلة، وظروف كل حالة فردية، أما المشكلة والمعضلة الأبرز فهي المدة الزمنية التي تستغرقها شؤون اللاجئين والسفارة في الرد على الطلبات المقدمة.
- ما هي أول الانطباعات التي ارتسمت في ذهنكِ عندما وطأت قدماكِ أرض كندا؟ وما أبرز الملامح في هذه البيئة الجديدة التي استدعت منكِ جهدًا مضاعفًا للتأقلم؟
قبل هذا، الأرض الكندية هي ثالث أرض وطأتها قدماي، وفي كل أرض كانت هناك لي فيها صور وأحداث، وإن أول ما شعرت به هو الأمان، وهو شعور افتقدته طويلًا. إن النظام والاحترام الذي لمسته في التعاملات كان منعشًا للروح. لكن التأقلم مع ثقافة مختلفة تمامًا، ومع لغة جديدة، ومع طقس قاسٍ في بعض الأحيان -لم أعتده- كان تحديًا كبيرًا، بالإضافة لتعلم عادات وتقاليد جديدة، وفهم طريقة التفكير المختلفة، كل ذلك استغرق وقتًا وجهدًا، ومن وجهة نظري تعتبر كندا من الدول الرائدة في استقبال اللاجئين وتوفير برامج دعم متنوعة لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع الجديد، بما في ذلك دروس اللغة والمساعدة في البحث عن عمل.
- تنهدتِ بعمق وأنتِ تقولين: كل أرض وطأتها قدماي تركت في روحي أثرًا. كيف انعكست تجربة اليمن بجراحها، ومصر بدفئها المؤقت، وكندا ببدايتها الجديدة، على تشكيل ملامح شخصيتكِ الفريدة؟ أي “وشم” تركته كل محطة على روحكِ؟
اليمن وشمت في روحي قوة التحمل والصبر، والتمسك بالأمل رغم كل شيء. مصر تركت بصمة الدفء الإنساني والقدرة على التكيف مع بيئات مختلفة. أما كندا، فهي تنقش في روحي معنى البداية الجديدة، وإمكانية تحقيق الذات في بيئة تقدر الطموح والاجتهاد. كل محطة أضافت لي طبقة جديدة من الفهم والمرونة. تُظهر الدراسات أن تجارب الهجرة واللجوء غالبًا ما تسهم في تطوير مهارات التأقلم والمرونة لدى الأفراد، وهذا ما شعرت به حقًا هنا في كندا.
- من سياق كلامك أكدتِ على أن ‘السفر يفتح مدارك الروح، وفي معترك هذه الرحلة المليئة بالتحديات والتحولات، ما هي أثمن الصفات التي اكتسبتها، والتي تثري جوهركِ الأساسي؟
أعتقد أن من أثمن الصفات هي القدرة على التكيف والمرونة في مواجهة التغيير. تعلمت أيضًا قيمة الاعتماد على الذات، وقوة الإرادة في تحقيق الأهداف. بالإضافة إلى ذلك، اكتسبت تقديرًا عميقًا للتنوع الثقافي والإنساني، وفهمت أن العالم أوسع بكثير مما كنا نتخيل. يُعتبر الانفتاح على الثقافات المختلفة وتعلم لغات جديدة من المهارات الهامة في عالمنا المعاصر، وتسهم في تعزيز التفاهم بين الشعوب.
- لم تخفي حقيقة أن الغربة مزيج من المشاعر المتضاربة. في لحظات الوحدة القاسية والشعور بأنكِ وحيدة في مواجهة العالم، كيف استطعتِ استجماع قواكِ والوقوف على قدميكِ من جديد؟ ما هو المنبع الذي استمدتِ منه صلابتكِ؟
في تلك اللحظات الصعبة، عامي الأول والثاني في مصر، كانا قاسيين، فكنت فتاة جديدة على البلد، ولم أتكيف بعد، وبعدها فعلت ما بوسعي لأعيش، لقد ركزت على أهدافي وعلى المستقبل الذي أطمح إليه. صلابتي استمددتها من إيماني بأن هذه الرحلة لها معنى ولم تنتهِ بعد، وأن التحديات هي جزء من النمو، إذ تلعب شبكات الدعم الاجتماعي، حتى وإن كانت صغيرة، دورًا حيويًا في مساعدة الأفراد على التغلب على الشعور بالوحدة والاغتراب في بلاد المهجر أيا كانت.
- ذكرتِ أن العام الأول أو العامين الأولين هما الأشد قسوة، إذ تستحضر الذاكرة تفاصيل الحياة الماضية. هل خفّ وهج الحنين مع مرور الأيام؟ وما هي الوسائل التي ساعدتكِ على التناغم مع إيقاع الحياة الجديدة في كندا، بعيدًا عن دفء وطنك الأم؟
وهج الحنين لا يختفِ تمامًا، لكنه يصبح أكثر لطفًا مع مرور الوقت. ما ساعدني على التناغم هو الانفتاح على المجتمع الكندي، والانخراط في الأنشطة التي تهمني. بناء حياة جديدة هنا، مع ذكريات الماضي كجزء مني، هو ما ساعدني على المضي قدمًا. يُنصح اللاجئون والمهاجرون بالانخراط في المجتمع الجديد من خلال التطوع أو المشاركة في الفعاليات المحلية لتكوين صداقات وشبكات اجتماعية جديدة، وهذا ما فتح مدارك كثيرة لي في كيفية فهم المجتمعات هنا.
- في ختام حديثنا، يضيء الأمل في عينيكِ وأنتِ تتحدثين عن طموحاتكِ في كندا، ومساهمتكِ في نهضة اليمن مستقبلًا. ما هي أبرز الأحلام التي تلوح في أفقكِ الكندي؟ وما هي الصورة التي تتخيلين بها دوركِ في بناء مستقبل أفضل لوطنكِ الذي يمر بظروف عصيبة؟
أحلامي في كندا تتمحور حول بناء مستقبل مهني ناجح وتحقيق الاستقرار. أما بالنسبة لليمن، فأحلم باليوم الذي أستطيع فيه العودة، وأن أسهم في إعادة بنائه وتقديم الدعم لأهله، سواء كان ذلك من خلال نقل خبراتي كمهندسة أو كمدرسة لغة، أو دعم المشاريع التنموية. ويبقى الأمل في مستقبل مشرق لليمن دافعًا قويًا لي، كما أن الكفاءات المهاجرة تلعب دورًا متزايد الأهمية في دعم جهود إعادة الإعمار والتنمية في بلدانهم الأصلية من خلال نقل المعرفة والخبرات والاستثمارات.