سيرة ذاتيةفن

محمد مشعجل: صوتٌ يمنيٌّ يُعانقُ الروحَ ويُلهِبُ الشجونَ

في سماء الفن اليمني، حيث تختلط أنفاس الأرض بوهج التراث، يتألّق صوتٌ يخرج من أعماق المهرة، ليُغني للقلوب قبل الآذان، ويُشعل في الذاكرة وهج الحنين. إنه محمد مشعجل، الفنان الذي لا يُمكن اختصاره بكلمات، ولا يمكن لصوته أن يُقاس بالأوتار فقط، بل هو إحساسٌ نابع من قلبٍ يعرف كيف يبوح، وكيف يُشعل النار في رماد الذكريات.

ليس مجرد فنان عابر في ساحة الغناء اليمني، بل ظاهرة صوتية ونفسية متفردة، تمتلك من الكاريزما الفنية ما يجعلها تُلامس شغاف المستمعين، وتجعلهم يُصغون بكامل أرواحهم لكل حرفٍ يتسلل من حنجرته، ولكل نغمة يلفظها بإتقانٍ صادق. حين تستمع لمحمد مشعجل، فإنك لا تسمع صوتًا فقط، بل تسمع مشهدًا حيًا مكتمل التفاصيل، تراه بعينيك وتشعر به بقلبك. صوته لا يغني الكلمات فقط، بل يعيد تشكيلها، ينفخ فيها الروح، فيصبح كل مقطع في أغنياته مرآة لوجدان إنساني مشترك، فيه من الحب ما يُسكر، ومن الشوق ما يُلهب، ومن الحزن ما يُبكي، ومن الأمل ما يُضمد الجراح.
يمتلك محمد مشعجل قدرة استثنائية على ترجمة الأحاسيس المتراكمة داخل النفس إلى موسيقى، إلى نغمة واحدة قد تقول ما تعجز عنه صفحات. إنه فنان يعرف جيدًا أن الأغنية ليست فقط لحنًا وكلمة، بل هي حالة وجدانية، وعندما يعيش الفنان هذه الحالة بصدق، تصبح أغانيه وجدانًا مشتركًا بينه وبين المستمع. هذه القدرة هي ما جعلته يتفرّد، وما منح أغانيه ذلك البريق الخاص الذي لا تخطئه أذن، ولا تنساه ذاكرة.

في كل أغنية من أغانيه، حكاية مكتملة العناصر، تبدأ بنغمة وتكتمل بإحساس. أغنية “رحل من أحبه” ليست مجرد رثاء غائب، بل استحضار مؤلم لذاكرة قلبٍ أضناه الفقد. تسيل الألحان فيها كما يسيل الدمع، ويهتز الحنين في نبراته، فتُصبح الكلمات موكبًا جنائزيًا يسير في طرقات الروح الموحشة. أما “دمع العين”، فهي تلك الآهة التي لم تُقال، والكسرة التي لا تُداوى، فيها ينوح الصوت كما ينوح عاشقٌ كتم حبّه طويلاً ثم تهاوى أمام أول سؤال. أما “نسيم الليل” لا تحتاج إلى تفسير، يكفي أن تنصت لها في عتمة ساكنة، وستدرك أنها ليست لحنًا، بل همسة تُداعب ذاكرة الحب الأولى، وتفتح شبابيك الماضي على مصراعيها.

وفي “اشكي القسوة”، نسمع كيف يتحول العتاب إلى بكاء داخلي، إلى صراع بين الحب والكرامة، بين الشوق والخذلان. أما في “انتظرتك سنين”، فالصبر نفسه يغني، يعزف على وتر الأمل، ويغزل من الوقت موسيقى خفيفة لا تملّ، رغم طول الانتظار. “ريم البوادي” تحكي قصة عشق بطابع غزلي فريد، ترسم لوحاتٍ بديعة من سحر الصحراء، وتستحضر الأنثى بوصفها حلمًا ودهشةً وسرًّا. وفي “راح ماضينا”، تنهار الجدران القديمة، وتتساقط الذكريات كأوراق خريفٍ لا رجعة فيه، ونتلمّس في الصوت وجعًا صامتًا لا يحتاج إلى بكاء.

هذا التنقل السلس بين حالات وجدانية متناقضة – من الشوق إلى العتاب، من الأمل إلى الانكسار – يثبت أن محمد مشعجل لا يغني لمجرد الغناء، بل يغني لأنه يعرف كيف يعبر، كيف يترجم النبض، وكيف يضع المستمع أمام نفسه، دون أقنعة. هو فنان يُجيد فنّ البوح، ويُتقن رسم تضاريس القلب بأدق تفاصيلها.

وما يزيد هذا التفرد سحرًا هو استخدامه للهجة المهريّة العريقة، التي تُمثل جزءًا من هوية جنوب اليمن الثقافية. هذه اللهجة، رغم ما فيها من غموض لبعض المستمعين، تتحول في أغاني مشعجل إلى موسيقى بذاتها، تُغني عن الترجمة، وتُخاطب الوجدان بلغة يفهمها القلب. وحين يُغني باللهجة المهرية، لا يبدو الأمر كخيار فني فحسب، بل كرسالة ثقافية، تُعيد للغة مكانتها، وللهوية جذورها، وللذاكرة صوتها.

هذا التفاعل بين الكلمة واللحن والصوت واللهجة، يخلق حالة فنية متكاملة يصعب تكرارها. فحتى من لا يفهم اللهجة، يستطيع أن يشعر، أن يتأثر، أن يُدرك المعنى عبر الإحساس، عبر ذلك الشجن الذي لا يُترجم بكلمات، بل يُعاش بصدق. وهذا بالضبط ما يُميّز الفن الحقيقي: أن يكون إنسانيًا، عابرًا للحدود، عابرًا للهجات واللغات.

ولأن الفن الحقيقي لا يكتفي بترديد النمط، فإن محمد مشعجل لا يتوقف عن التجريب ضمن ثوابته، فهو يدمج ببراعة بين روح التراث اليمني وأدوات العصر الموسيقية، فيخلق توازنًا فنيًا يجعل أغانيه مألوفة وحديثة في آنٍ واحد. صوته يليق بالموروث، لكنه لا يرفض الحداثة، بل يعيد صياغتها بما لا يُفقده الأصالة. هو فنان لا يستسلم لموجة، بل يصنع لنفسه نهرًا خاصًا، يتدفق فيه الإبداع من منبعه حتى مصبّ المشاعر.

أما حضوره الفني، فهو امتداد لصوته. متواضع في حضوره، متألق في أدائه، لا يسعى إلى الأضواء بقدر ما يسعى إلى الصدق، وهذا ما جعله محطّ تقدير محبيه، وجعل لفنه طابعًا شخصيًا لا يمكن استنساخه. هو فنان يشبه وطنه: بسيط في مظهره، عميق في جوهره، متجذر في الأرض، محلّق في السماء.

وفي خضمّ الزحام الفني، حيث تُغرقنا الأصوات المتشابهة، يظل صوت محمد مشعجل مختلفًا، أصيلًا، ومُحمّلًا بذاكرة لا تنسى. هو صوتٌ يُشبه رائحة الهيل في قهوة المساء، يشبه ظلال النخيل على صحراء هادئة، ويشبه دمعًا نزل بصمتٍ لأن القلب لم يعد يحتمل. إنه صوت اليمن بكل ما فيها من جمالٍ وألم، من حبٍّ وحنين، من قوةٍ وانكسار.

هكذا يبقى محمد مشعجل، فنانًا يُغني لا ليُبهر، بل ليُشعر. فنانٌ تتماهى في صوته الروح اليمنية، وتفيض أغانيه بشغف الأرض، وهمس الذكريات، ونبض الناس. إنه ليس مجرد صوت يصدح في الأثير، بل ذاكرة غنائية تحفظ وجدان اليمن، وتحكي لنا – كلما سمعناه – أننا لا زلنا قادرين على أن نحب، أن نشتاق، وأن نحلم.

سيبقى اسمه محفورًا في ذاكرة الفن اليمني، لا لأن عدد أغانيه كثير، ولا لأن ألبوماته تملأ السوق، بل لأنه ببساطة يغني بصدق، ويصل بإحساس، ويترك في القلب أثرًا لا يُنسى. محمد مشعجل، ليس مجرد فنان، بل هو حالة شعورية كاملة، تستحق أن تُسمع، وأن تُكتب، وأن تُعاش.

زر الذهاب إلى الأعلى